عـلـى عـتـبـة المـريض

كيف تقنع المريض أن يصبح دميتك التي تتدرب أو تمتحن عليها ؟ .. عفواً لم أقصد هذا و لكن بعض الطلاب يشعرون المريض بأنه مجرد “وسيلة” يطبقون عليه ما يقرأونه في كتبهم. و هنا تتضح أهمية أول خطوة في استئذان المريض و هي الاحترام و الذي سأتحدث عنه بإسهاب هنا. عندما يشعر المريض بالتهديد فإنه سيتخذ وضعية الدفاع و سيقاومك بالوسيلة التي يقدر عليها. فمثلاً بعضهم يرفض أن تفحصه أو تسأله و يصرح هذا بشكل عنيف و قد تستغرب ردة فعله. و بعضهم ضعفاء كالبنت الصغيرة ستخجل و تجدها قبضت يديها و انكمش جسدها على بعضه و تتحاشى النظر إليك لكنها لم تقل لك ابتعد ،بل التزمت الصمت. و في أحيان كثيرة عندما يكون المريض غائب عن الوعي أو لا تستطيع أن تأخذ الموافقة منه مباشرة فإن تعاملك سيكون مع قريبه الذي يرعاه و عليك أن تبدي إحترامك لكلاهما.

 

في المستشفيات التعليمية و التي يعرف المريض مسبقاً أنه قد يقابل طلاب و طالبات طب يتخذ المريض وضعية الدفاع فور دخوله المستشفى و أحد أسباب هذه الظاهرة هي حديث المجتمع عن طلاب  الطب في المستشفى الجامعي مثلاً و كيف أنهم مزعجين و استغلاليين بصدق أحياناً و بمبالغة غالباً.

 

عندما دخلت السنة الرابعة، تصورت أن أساتذتنا سيعلموننا أولاً حقوق المريض و كيف نتصرف في جلسات العملي و نقنع المرضى بأن يكونوا تحت الضوء! و لكن طال انتظاري.. كانت النصيحة الوحيدة التي كرروها علينا هي: ( قل السلام عليكم، هل من الممكن أن نفحصك و نأخذ منك التاريخ المرضي؟ هل توافق أن يأتي الدكتور و بقية زملائي فيما بعد؟ ) ..  و يتم تصنيفهم إلى مريض متعاون و مريض غير متعاون! لم تكن هذه الجملة فعالة عند معظم المرضى باختلاف مستويات تعليمهم و حالاتهم الخاصة كالاستئذان من الأم و طفلها أو من الغائب عن الوعي أو من الذي يتألم أو مرضى الأعضاء التناسلية أو حتى المريض من الجنس الآخر و المريض النفسي ! ليس كل شيء يقدم على طبق من ذهب في الجامعة و لكن أساسيات كهذه تحتاج إلى تلقين أولاً و بقية الفروع سنهتم بها بشكل فردي.. 

 

سأذكر لكم الحالات المختلفة التي واجهتها شخصياً و مغزى كل قصة معلومة مهمة تتعلق بأساسيات الاستئذان من المريض لغرض التدريب كطالب طب أو طبيب امتياز و مقيم. و لكن قبل ذلك و لتتضح الفكرة أكثر ضع نفسك مكان المريض. بهذا فقط ستتعلم الكثير عن حقوق المريض عليك قبل أن تفكر باستئذانه. لو انقلبت الأدوار و أصبحت المريض و دخل عليك طالب طب يريد أن يتعلم  فماذا تريد منه؟ كيف سترضى عنه و تسمح له بأن يتخطى حدود خصوصيتك و يطلع على ضعفك و تفاصيل مرضك و حياتك. بالطبع تريد منه شيئين اثنين : أن يبدي احترامه لك و أن يستحق ثقتك به.

 

لتكسب ثقة و احترام المريض افعل الآتي:

١-عليك أن تعرف على الأقل اسمه ثم تشخيص مرضه قبل الدخول عليه إن أمكن أو شكواه الأساسية في اليوم الحالي. و هذا لتسأله عنها و تبدي اهتمامك بما يؤلمه حالياً، هذه فقط قد تمهد لك الطريق و تفرشه ورداً أبيض ! مثلاً (كيف حال صداعك الآن هل تحسن ؟) . أنت تقابل المريض لأول مرة و عندما يعرف أنك تهتم بأمر صداعه تلك اللحظة ـ و لو لم يكن الأولوية ـ سيتبادر إلى ذهنه أنك تعرف كل شيء و تستحق أن تعرف المزيد عن حالته و ستغادره فكرة طردك! 

٢-كثير من المرضى يكونون في غرف بها أسرة كثيرة تفصل بينها ستائر و لا يمكنك أن تطرق الباب، هذا لا يعني أن تترك هذه الخطوة بل قم بتحويرها لتناسب الظروف. اطرق على الطاولة إذا كان طرفها خارج محيط المريض أو الجدار إذا كان سريره بجانبه و اصدح بالسلام عليكم و اسم المريض إذا كانت الضوضاء تحجب صوتك ثم استئذن للدخول و انتظر الموافقة. و لكن أن تقوم بكل هذه الخطوات في لحظة واحدة كأن تسحب الستارة و أنت تلقي السلام و قد خطوت بقدمك و أصبحت تقف في محيط المريض فهذا اقتحام و ليس استئذان. يذكرني هذا بموقف طريف لطالبة في المركز الصيفي دخلت بخفة من باب الفصل الذي كان غير مغلق تماماً و وقفت ورائي بكل هدوء و أنا أشرح الدرس و ما ان التفت إليها حتى قالت بصوت عال: أستاذة هل تسمحين لي بالدخول؟ ابتسمت و أنا أقول لها دخلتي و انتهى الأمر ، هاتي ما تريدينه .. خجلت هي و ضحك الجميع! لكن في المستشفى المريض لن يبتسم في وجهك ان اقتحمت محيطه بهذا الشكل و لكن سيقرر من تلك اللحظة كيف سيكون تفاعلكما في الدقائق القادمة و الذي قد لايكون إيجابياً.

٣- عرف عن نفسك بعد السلام عليكم أنا دكتور فلان طبيب أطفال. و إذا كنت طالب طب فكذبة بيضاء لن تضركم. أنا دكتور فلان طبيب في القسم هنا، هل لي أن كذا و كذا .. كنت أستخدم هذه الجملة في امتحانات العملي النهائية و لم أواجه الرفض من أي مريض الحمد لله.

٤- عندما تكون في امتحان فلا تخطىء هذا الخطأ الغير مقصود و تسرق مركز الاهتمام من المريض و تضع نفسك أولوية و لو لدقائق. هذا الخطأ هو أنك عند التعريف بنفسك تقول: أنا طالب طب و اليوم اختبار عملي هل لي أن أفحصك؟! سيقول المريض لنفسه و ما شأني أنا لأكون دمية امتحانك أليس المستشفى مليئ بغيري من المرضى؟ ستسمع جملة الله يوفقك يا ولدي جافة بلا نكهة ! قد يسمح لك بدون أن يساعدك كما كنت تتمنى و قد يطردك بفضاضة. في أحد امتحانات الباطنة النهائية، تقدم الطبيب المقيم و قال سأقدمك إلى المريض و أستئذنه لك. فقلت له لا تفعل أرجوك، اترك لي هذه الخطوة. لأني سمعته يقول للمرضى عندما قدم زميلاتي هذه طالبة و عندها امتحان اليوم ساعدها شافاك الله ! نفس المريض الذي طرد زميلتي رحب بي و كان ممتناً بعد ان انتهيت من فضل الله. 

 

٥- عندما تدخلين على مريض و عندما تدخل على مريضة ، احرصي أن يتقدم قبلك ممرض إذا كان مريضك ذكر و احرص أن تدخل قبلك ممرضة إذا كنت ستستئذن مريضة. لا أدري لماذا يتجاهل البعض الحدود بين الجنسين في محيط المستشفى. سرير المريض أو غرفته هي كبيته و الاستئذان المناسب مهم جداً. قد لا تجد ممرض في محطة التمريض و قد يحصل العكس عندها استعيني بزملائك الأطباء و استعن أنت بزميلاتك الطبيبات. مرة من المرات كنت أرعى مريضاً و علي أن أزوره يومياً في الصباح الباكر، بحثتُ كثيراً عن الممرض الوحيد في القسم و لم أجده، وجدتني أخصائية و استعجلتني بالدخول عليه لكنني رفضت أن أدخل معها، فاستئذنتْ بالطريقة الاقتحامية التي شرحتها قبل قليل ، لكنها خرجت سريعاً و وجهها احمر و اسود ثم اصفر .. سألتها ما بك؟ ، قالت فالنفحصه فيما بعد ! عرفتُ أنه سائها ما رأته و سائه أكثر ما انكشف عنه! 

٦-عندما تتاح لك الفرصة للقاء المريض، قم بتقييم الأجواء هناك لتجيب على السؤال الذي لن يطرحه المريض: هل الوقت مناسب؟ . ساعات الوجبات و عندما يكون عنده زوار كثيرون ، و إذا قابلته على كرسيه المتحرك يستعد للخروج إلى الحديقة أو يصلي. كثير من الأوقات يحتاج المريض إلى خصوصية و قد لا تكون مناسبة لفحصه و سؤاله عن تفاصيل مرضه. إذا وجدت المريض مستلقياً على السرير و يبدو أن لا شيء يشغله فمن اللباقة أن تسأله ما إذا كان الوقت مناسب لتأخذ منه التاريخ المرضي. و لعلمك أنك قد تأخذ عشر دقائق أو أكثر اسأله هل يحتاج إلى دخول دورة المياة أو الصلاة أو غير ذلك حتى يتهيأ نفسياً و يخمن بأن وقتكما معاً قد يطول فلا يتذمر سريعاً.

٦- الاستئذان لفحص الطفل المريض. لكل عمر حالته الخاصة. فالرضيع في أول شهرين لن تحتاج إلا لكسب ثقة أمه فقط. و في العمر الذي يبدأ عندهم تمييز الأم عن غيرها و

social anxiety

عليك أن تكسب ثقة الأم قبل أن تلمس الطفل أو تتحدث إليه. الرضيع في عمر السنة مثلاً بفطرته يريد أن يتأكد أولاً أنك لن تؤذيه و هذا الاحساس لا يمكنك أن تنقله إليه مباشرة و لكن دع أمه تتولى المهمة. عندما يراقبك تفحص صدر أمه بسماعتك و في نفس الوقت تعطيها المطرقة الطبية لتسلمها إلى طفلها و تتركه يلعب بها في هذه الأثناء و يتأكد أنها ليست خطيرة هذا فقط يسهل خطوات فحصه و يقوي ثقة أمه بك. لأنك بهذا توضح لها أنك تهتم بطفلها و مخاوفه و لن تجعله يبكي و تتركها بعد الفحص منزعجة. الخطأ الشائع هنا هو التوجه إلى الطفل مباشرة بعد السلام عليكم و الاستئذان من الأم و لا تزال نظرات الاستغراب بادية على وجه الطفل ! دعه أولاً يتعود على وجودك و يرى ابتسامتك و ابتسامة أمه ليتأكد أن أمه ترحب بك و تتقبلك أولاً. الأطفال أكبر من عمر السنة و قبل المدرسة قد يلزم أن تتحدث معهم بلغتهم و بطريقتهم.. لاحظ كيف تتحدث معه أمه و قلدها! احرص  أن تكون في مستواه عندما تتحدث إليه. اجلس معه على الأرض أو على ركبتيك لتصبح في طوله و استئذن منه في كل خطوة في الفحص باستمرار. و احرص أيضاً أن تتركه حراً يعطيك يده التي تريد فحصها بنفسه و لا تأخذها أنت.. دعه يفحصك بأداة الفحص أولاً أو أمه إذا كانت موجوده و العب معه لعبة الأدوار. الأطفال في عمر المدرسة يهمهم أيضاً أن تكون في مستوى تفكيرهم و أن تتحدث لغتهم. لا تتجاهل الاستئذان منهم بحجة وجود والديهم و ضرورة الفحص. في هذا العمر تتكون لدى الطفل خاصية التفرد و الانفصال عن الوالدين و يحتاج منك أن تقدره كشخص منفصل عنهم له رأيه و يفهم ما تقول. فمثلاً عندما تحكي لوالده الواقف معه شيئاً ثم تلتفت إليه و تحكي له نقيض ما قلته للتو فإنك ستخسر ثقته و سيشعر أنك تستخف به. بالنسبة للمراهقين .. عمرهم حساس و شخصياتهم في طور التكوين و لذلك عليك أن تفصل طريقتك في الاستئذان على مقاس المرحلة التي وصلوا إليها. هذا العمر بشكل عام يحتاج إلى خصوصية فردية. فمثلاً فحص الفتاة التي بدأت عليها علامات النضوج أمام والدها و أحياناً والدتها يؤذيها نفسياً. الاستئذان بفصلهما حتى تنتهي من الفحص قد يكون ضروري. تأكد من أن تستئذن المراهق قبل والده أو والدته.

شعاااا 

هنا سأحكي بعض المواقف التي كانت دروس الاستئذان فيها أهم المعلومات الطبية التي خرجت بها. 

 

في إحدى جلسات العملي، كان دوري في البحث عن حالة في عناية القلب. اخترت المريض الذي كان يبدو عليه أنه يستطيع أن يحاورنا و حالته مستقرة نوعاً ما. لكني لاحظتُ أن شرطياً كان يتمشى في الغرفة وقف بيني و بين المريض و كأنه يعترض طريقي. سألته هل أنت مع هذا المريض؟ قال نعم. و هل هو قريبك؟ قال بل هو سجين و أنا هنا لحراسته. لم أنتبه إلى السلاسل التي كانت تربط أقدامه في بعضها و في السرير و التي كشف عنها المريض و هو يحاول أن يثير شفقتي. كان رجلاً كبيراً في السن و قبل أن أستئذنه حاول أن يستعطفني بشكل أثار غضب الشرطي. عرفت وقتها أنه يستخدم أسلوب التلاعب العاطفي و لن يجعل فحصي له سهلاً. سألت الشرطي بعيداً عن مسامع المريض إن كان هناك ما يقلق أو ما يجب أن أنتبه له. كان المريض المناسب الوحيد لدرسنا ذلك اليوم، فتقدمت إليه و استأذنته و بدأت أسأله عن ألم صدره و تفاصيله، و فجأة خفض صوته و بدأ يطلبني هاتفي النقال لمكالمة ضرورية. التفتُ أبحث عن الشرطي فلم أجده. استغل المريض فرصة خروجه ليتوسل إلي بشكل أثار شكوكي. للقصة بقية و لكن مغزاها هنا هو حالة المريض الخاصة و كونه سجين، فالاستئذان هنا يجب أن يشمل الحارس و الاطمئنان أولاً أنه ليس مجرم خطير أو أن هناك ما يجب مراعاته لسلامة الجميع. 

 

في إحدى جولاتي على المرضى عندما كنت طالبة. كنت أختبر قدرتي على التشخيص المبدئي بدون أن أقرأ الملف أولاً أو قائمة المرضى. استئذنت مريضاً لأسئله بدون فحص ما يكفي لأفكر في تشخيص مناسب لحالته. لاحظت نباهته و عينيه التي ابتسمت بحنان الأب. كان واضح على مظهره أنه مثقف و أنيق رغم كونه يلبس فستان المستشفى الوردي! طاولته مرتبة و يجلس بشكل مستقيم و قد شبك بين أصابعه كأنه يترأس اجتماعاً ما. قلقتُ قليلاً لأني أعرف أن أخذ التاريخ المرضي من المثقفين ليس مهمة سهلة. فهم يصرون على تشخيص معين و يحركون دفة الحديث كما يريدون بشيء من التعالي لا يساعد طالب العلم. قلت له و قد ابتسمتُ أمازحه ماشاء الله هل أنت معلم أم مدير مدرسة؟ قال بل طبيب بروفيسور .. !! أنت طالبة أليس كذلك؟ قلت له نعم في السنة السادسة. دعا لي بالتوفيق و استأذنته مرة أخرى لأسئله عن مرضه و عندما وافق بكل بهجة قلتُ له أريد أن أطلبك طلب.. قل لي بما يؤلمك و أتى بك إلى المستشفى بلغة بسيطة فأنا الطبيبة هنا، لا تستخدم مصطلحات طبية و لا “تغششني” أرجوك .. و في النهاية سأعطيك التشخيص و صححني وقتها. وافق و هو متشوق أكثر مني! للقصة بقية جعلتني أحمد الله على الفرصة الرائعة التي جمعتني بهذا الطبيب. المغزى هنا أن تجمع المعلومات من منظر المريض في أول وهلة و أن تنتبه لجميع التفاصيل عندما تستأذن و أن تعيد الاستئذان مرة أخرى إذا اكتشف المريض كذبتك البيضاء .. و لكن بثقة تجعله يوافق بدون تردد.  

 

كالعادة أعاني من المتطفلين الذين يقحمون رؤوسهم بيني  و بين عزلتي مع كتابي عندما أقرأ و الذين أتعامل مع تطفلهم بهدوء. لكن عندما تتطفل زميلة  و جدتني أحاور مريضي بعد محاولات اقناع فهنا المشكلة. عندما اكتشفن جولاتي على المرضى بطريقة “لغز التشخيص” أصبحت مُراقبة و زادت حالات سحب ستارة المريض بدون سابق انذار. عدد لا بأس به استئذن مني لمرافقتي و وافقت بكل سرور، و عدد أكثر اختار طريقة أخرى. فمثلاً كنت أقف في محيط المريض أحاوره فسحبت الستارة زميلة و مدت عنقها برأس وددت لو أفصله عن جسدها الذي تركته خلف الستارة ، تسألني بالانجليزية ما التشخيص؟ ماذا لديك هنا؟ هذه العادة تنم عن عدم احترام لنفسها أولا و للمريض ثانياً و لي أخيرا! في هذا الموقف عليك أن تفعل شيء واحد.. لا ترد على أسئلتها و اتجه إلى المريض و قل له هذه زميلتي فلانة ، هل تسمح لها أن تنضم إلينا؟ تريد أن تطمئن عليك هي الأخرى. و اخفض صوتك بصلواتك ألا يوافق! فمن أخلاقها كهذه لا تستحق فرصة إلا لو اعتذرت عن طريقتها السيئة. بعض البشر _و لله حكمة  في هذا_ لا يفطنون إلى الخطأ الذي ارتكبوه. و عليك بكل حزم و هدوء أن تنبههم إليه على انفراد. 

 

 

 

في السنة الخامسة، طُلب منا كتابة تقرير عن حالة مريض في قسم جراحة العظام. كانت الحالة التي أثارت اهتمامنا لامرأة في الثلاثينات تعاني من السكري منذ أن كانت طفلة و قد تكون خراج “عظيم” في ساعدها الأيسر. وصل إلى عظمها. وجدت زميلتي تستأذن للخروج من عندها و قد قالت لها (سامحينا طالبات طب حالتنا حالة مطلوب منا واجب نكتبه ادعي لنا!) قد تبدو هذه الجملة بريئة و لكن عندما تقولينها لأمك في البيت أو لأهلك اذا اعتذرتي عن اجتماع ما..لأن مضمونها هنا “عدم احترام للذات” زميلتي لم تأخذ نفسها على محمل الجد فكيف تريد للمريضة أن تثق فيها و تعطيها تفاصيل مرضها أو تسمح لها بلمس ساعدها العزيز !! كان المعنى المبطن للجملة هو : (أنا مجرد طالبة لا أفقه و لا أهتم لحالتك أصلاً و لكنه هذا الواجب اللعين و حياتي المأساوية … ! ) وقفت قليلاً خلف ستارة المريضة أزيل بعض ذل زميلتي الذي علق بأكتافي .. ثم ألقيت السلام و ناديت مريضتي باسمها و اطمئنيت عن حالها و حال مرافقتها ثم قلت لها، متى عمليتك؟ قالت بعد ساعات من الآن.. و قد علا وجهها حزن عميق.. قلت لها خيراً ان شاء الله .. فقالت لي هل أنت طالبة أيضاً؟ قلت لها نعم .. و قد رأيت زميلتي قبل قليل خرجت من عندك و إن لم يكن لديك مانع سأتركك قليلاً لترتاحي ثم أعود لأسئلك بعض الأسئلة و أفحصك إن أمكن. وافقت و قبل أن أذهب سألتها ما إذا كانت تحتاج لشيء أساعدها به .. أو إذا كان لديها أسئلة للجراح حتى أبدد قلقها الشديد.. عندما عدتُ و قبل أن أنتهي من جمع المعلومات .. بكت مريضتي و أمسكت بيدي و قد بللتها بدموعها الغزيرة.. كانت معلمة لغة انجليزية و قد سمعت زميلاتي يتحدثن فوق رأسها عن احتمال بتر ساعدها من الكتف.. و عن مضاعفات العملية التي كان أحدها النزف حتى الموت.. كم شعرتُ بالغضب وقتها كيف أن سؤال بسيط عن وظيفتها و مستوى تعليمها تم تجاهله. ثم قالت لي أشعر أن هذه آخر مرة سأرى أمي فيها، و لذلك سألغي العملية. الرابطة العاطفية التي تكونت بيننا عند لقائنا الأول و الذي حرصتُ فيه أن أعطيها دقائق لترتاح قبل أن أبدأ، حتمت علي أن أوضح لها كل شيء. كانت عمليتها بسيطة و هي استئصال الجزء النخر من عظمها و تنظيف للأنسجة المتعفنة من حوله. و لكونها متينة بعض الشيء فمعظم الالتهاب في النسيج الدهني و لن يؤثر على حركة ساعدها فيما بعد. شرحت لها بالرسم و الصور و أتيت بالجراح أيضاً ليطمئنها.  للقصة بقية مشوقة ليس مكانها هنا. المغزى هو أن الطبيب عندما يقدر و يحترم نفسه فإنه سيفهم ما معنى أن يحترم الآخرين و يشعرهم بأهميتهم. حتى لو اكتشف المريض أنك طالب طب فلا يجب أن تهتز ثقتك بنفسك و تتراجع أو تجعل من نفسك أضحوكة بغرض إنشاء تلك الرابطة العاطفية بينك و بين المريض. 

 

 

في سنة الامتياز كنت أزور أحد المرضى يومياً لأضمد جرح عمليته و أطمئن على أنابيب التصريف في صدره. كانت غرفته مليئة بعبارات الحب و الأشواق و البالونات و الصور.. كان رجلاً لطيفاً معي و مع الجميع. يحكي لزوجته عني في مكالمة هاتفية أثناء تغيير ضماداته و عن يدي الرقيقتين التي لا يشعر معها بالألم و لا يحتاج معها إلى مخدر! قلت في نفسي لقد أشعلت نارها و لن يحترق بها أحد غيرك أيها المسكين! لم يكن الأمر يحتاج إلى ذكاء لتكتشف نوع العائلة التي تحيط به. العناية الشديدة بغرفته رغم كونه في المستشفى منذ أيام فقط. و كما توقعت.. في اليوم التالي وجدت زوجته وصلت قبلي رغم كونه ليس موعد الزيارة و لا يسمح للمرافقة في ذلك القسم من المستشفى. دخلتُ مع الممرض كالعادة بأدوات التضميد في موعدي اليومي لأجدها أمامي ترد السلام بطريقة توحي بأنها تقول : أهلاً و سهلاً وقعتي في الفخ.. !! أخيراً تشرفنا برؤيتك .. سألتني هل أنت الدكتورة فلانة؟ و هي تتفحصني من الأعلى إلى الأسفل بنظرات تطلق شرراً.. مريضي صامت على غير العادة. فقلت له كيف حالك اليوم؟ هل أنت مستعد لتنظيف جرحك أم آتيك في وقت لاحق؟ استئذنته و أنا أنظر إلى زوجته .. لأشعرها أنها الآمر و الناهي و القرار قرارها لتهدأ و تترك غيرتها اللامنطقية. لم أكن أنوي أن أكشف عن جرحه بعد أن وجدتها عنده، و اقترحتُ أن أعود فيما بعد .. لكنها أصرت أن أضمد جرحه أمامها.. تريد أن ترى المنظر الذي تتخيله و الشياطين توسوس لها في غيبتها كل يوم. كل هذا و مريضي صامت و يتحاشى النظر إلي. عرفتُ أن لا حول له و لا قوة أمام غيرتها و غضبها الشديدين. قد يخطر على بالكم أن أقوم بعملي و أتجاهلها و حسب.. و لكن هذا الموقف يتضمن أمور قد تؤثر على حياتهما أكثر إذا ما نظفت جرحه أمامها بعيداً عما يشغل بالها في تلك اللحظة. أمور مهمة يعرفها الطبيب تتعلق بالاستئذان في حضرة أهل المريض. فلو رأت زوجته ضعفه عندما يتألم من الجرح ، قد تتأثر صورة الأمير المغوار و الشاب الشجاع و تستصغره بدون أن تشعر.. قد تشمئز من الصديد المنهمر من جرح صدره و رائحة جلده المتعفن.. حتى بعد شفائه و تتأثر حياتهما الحميمة. قد تخطئ في تفسير تقطيعي للأنسجة الميتة من الجرح و تظن أنني أوذيه بلا رحمة .. و قد أخطر على بالها كلما نظرت إلى ندبة الجرح بعد سنوات و تشتعل نارها من جديد.. لا أعرف أي نوع من النساء هي و ليس مكاني لأعرف  و لذلك فإن أي شيء من الممكن أن يحصل لو أني مضيت قدماً  بعد أن أذنت لي بمقابلة مريضي. الدرس المهم هنا هو أن تبقى بعيداً عن الدراما العائلية و تردد .. 

not my circus , not my monkeys 

و الأمر الثاني هو أن المريض هو الأولوية دائماً. و لا يعني أنه بعد استئذانك و موافقة المريض ينتهي الأمر، و لكن يمكنك أن تتراجع حسب الظروف حتى بعد أن يأذن لك و عد في وقت لاحق.

أرحب بتعليقاتكم و أسئلتكم دائماً 

🙂

7 thoughts on “عـلـى عـتـبـة المـريض

  1. موضوع جميل كالعادة استفدت منه جدا أتمنى ان تكتبي مواضيع فيها تجاربك و أراءك .

    سوْال هل هناك مرجع -غير تالي ومكلويد- للفحص السريري للطلبة ؟

    Like

  2. متابع لكتاباتك الاكثر من رائعة ،، واصلي
    لكن لم ترق لي فكرة الكذبة البيضاء ،، الكذب كذب ونحن طلاب ولسنا اطباء..
    تحياتي

    Like

  3. موضوع مفيد و ممتع ، يعطيك العافية يا د سايلنت
    بس حابه أسأل بالنسبة للدخول و فحص الجنس الآخر ، المشكلة محد فاضي لي يجي يوقف معي من الممريضين الرجال هذا لو كان فيه
    اش الحل ؟؟

    Like

    • الله يعافيك ..
      قدر الإمكان حاولي ألا تدخلي بدون خبر مسبق عند المريض ..
      استعيني بأي “رجل” يمر .. ! قولي له فضلاً أخبر المريض الذي اسمه فلان الفلاني أن الدكتورة قادمة لتراك. و إذا انعدمت الوسائل، اطرقي باب الغرفة من الخارج بدون أن تدخلي أو تنظري و استئذني للدخول بهذه الطريقة ( السلام عليكم ، فلان الفلاني ؟ أنا دكتورة فلانة هل أدخل؟ إذا سمعتي صوته مرتبك و كأنك فاجأتيه أو أنه استيقظ من النوم على صوتك فقولي له ، خمس دقائق و أدخل .. “خذ راحتك” .. و استعد. ) عندما أقوم بهذا أثناء عملي ،أجد المريض أو مرافقه يأتي إلي خارج الغرفة ليعلمني أنه مستعد.. في موقف آخر إذا استئذنتي للدخول و قال لك المريض تفضلي يا دكتورة “فورا” .. فقي أيضاً خلف الباب قليلاً .. عدي حتى العشرة! ثم ادخلي .

      أما الممرض فقط تحتاجينه ليستأذن لك من المريض أو عندما تقومين بفحص مريض مشلول أو لا يستطيع النهوض أو أي فحص يحتاج مساعدة و ليس لتأخذين التاريخ المرضي ..
      أتمنى لك التوفيق.

      Like

  4. شكرا دكتوره كلام جدا جميل 🙁بس الشي الصعب أني ادخل على المريض وآقول انا دكتوره 😭صعبه يجلس يسألني عن المرض ولا اعرف ارد ممكن معلوماتي قليله عشان آطمنه 😰
    دكتوره حتى الكشف لما اجلس اكشف واقول انا دكتوره فيها فرق لما اقول انا طالبه
    بدال الدكتوره
    على فكره هذا الموضوع جدا يألمني
    لدرجه اجلس اهدر مع المريضه او المريض
    واشرح لهم ليش اسأل
    بس أن شاء الله نتطور في الآيام المقبلة ولانزعج احد
    والله تهمنا نفسياتهم 👼🏼
    بس شكرا لك على الموضوع 💔

    Like

    • أهلاً عزيزتي هاجر ..
      ١- سؤال المريض لك عن مرضه أو أي سؤال ثاني يتعلق مباشرة بعلاقته مع طبيبه المعالج الأساسي يعتبر “منطقة محظورة” ! لماذا؟ لأنه ليس من صلاحياتك حتى لو كنتي تعرفين الكثير عن مرضه أن تحدثيه عنه. ثم إن كونه يسألك أنت الطالبة المتدربة يعني عدة أشياء لا علاقة لك بها. مثل أن يكون المريض لا يعرفه خطورة مرضه و لطبيبه المعالج خطة معينة حتى ينقل إليه هذه المعلومة فتأتين أنت و تسوء الأمور. أو أن طبيبه المعالج مقصر معه و لا يجيب على أسئلته كما ينبغي و هنا أيضاً لا دور لك. و قد تقعين في مشكلات حيث أن بعض المرضى يقارن بين معلومات الأطباء و قد يقرر أن كلامك مختلف عن الطبيب الذي يعالجه فيقرر الخروج من المستشفى أو رفع شكوى على الطبيب أو أي شيء آخر. باختصار أنت لا تعرفين الوضع بالكامل و لا علاقة مباشرة لك في خطة علاجه ، و لذلك لتكن إجابتك دائماً على أسئلتهم ( أنا هنا لأفحصك بالكامل و أعرف منك جميع المعلومات المهمة حتى يناقشها طبيبك معك. و أي سؤال توجه به إليه لأنه طبيبك المعالج الأساسي) كنت أقلب الطاولة على المرضى الذين يصرون على سؤالي عن تفاصيل حالتهم و أسألهم أنا (هل تعرف طبيبك الأساسي؟ هل تعرف اسمه؟ و عندما تكون إجابتهم لا قد أقول لهم اسأله عن اسمه عندما يزورك أو اسأل الممرضات حتى توجه إليه أسئلتك، أنا أعرف الإجابات على أسئلتك و لكن النظام أن يجيبك هو) . حتى عندما تصبحين طبيبة امتياز فإن إعطائك معلومات للمريض عن مرضه يجب أن يكون بحرص و بالاتفاق مع طبيبه الأساسي. دعي المريض يفهم أنك تعرفين الكثير عن المرض و أن معلوماتك صحيحة و لكنه سأل الشخص الخطأ، حتى لا يفقد ثقته فيك.

      ٢- عندما تستأذنين لفحص مريض، لا تبرري كل فعل تقومين به و لا كل سؤال تسألينه “بشكل علمي” لأن الجهل خير من العلم القليل في هذه الحالة. أعرف أن بعض المرضى ثرثارين و فضوليين قليلاً. و لكنك غير ملزمة بتفسير ما تقومين به من ناحية علمية. قد يكون لديك رغبة شديدة في توضيح سبب فحصك لحلق مريض مصاب بجلطة الدماغ لأنك تفهمين السبب و قد أبهرك التفسير العلمي له و تشعرين أنه منطقي وواضح ،لكن فليكن ردك لكل سؤال.. من المهم أن نفحصك بشكل شامل و نسألك عن كل شيء حتى نطمئن عليك.

      شكراً لمشاركتك هذه النقاط المهمة. أتمنى أن تستفيدي من الإجابة .

      Like

اكــتـب تـعـلـيـقـك أو سـؤالـك هـنـا

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.