من أين يأتي صفاء الذهن؟

b1884-basmala-svg

وصلني قبل فترة سؤال عن كيفية تصفية الذهن, كنت أحمل إجابة في داخلي لكني لم أجد بعد الطريقة التي تترجمها إلى الخارج. أجبت بأنها نعمة من الله يدعو الإنسان ليمنحه الله إياها كأي هبة أخرى. و الحقيقة هي أني اليوم بمشئية الله عرفت كيف أترجم تلك الإجابة أخيراً.

كلنا نتذكر كيف كنا أطفال لا يشغل بالنا شيء مهم. حتى الأشياء المهمة بالنسبة لنا لم تسيطر علينا من خلال تفكيرنا بها. كلنا سمعنا جملة “تكبر و تنسى” و الحقيقة أن النسيان يتركنا إذا كبرنا, فنتذكر دائماً كل تجاربنا و أفكارنا و أفكار غيرنا و آراؤهم عنا و تعريفنا لأنفسنا من خلال أمور خارجية التصقت بنا رغماً عنا و كثير من الأمور تشكل شريط صوتي نسمعه يومياً و في كل وقت. عندما ننام فإن هذا الشريط الصوتي يكتسب ميزة أخرى و هي الصورة! نرى تلك الأفكار التي تشوش تفكيرنا يومياً على شكل أفلام قد تستمر بعد الاستيقاظ لدقائق.

إن العجز عن إيقاف التفكير عبء مخيف ! إننا غير قادرين على استيعاب هذا لأن الجميع يعاني منه. أقصد إدمان التفكير. 

أحياناً “نكلِّم” أنفسنا بصوت عالٍ . بالذات عند الغضب و هذا لا يعني أننا مجانين! نحن نكلم أنفسنا يومياً بدون صوت. إنه تلك الضجة الخلفية التي تمنع عنا الانصات للأشياء الجديدة, لقراءة الكتب, للاختراع للإبداع و المذاكرة! 

تلك الضجة قد تكون غير متعلقة بالفكرة التي أنت مشغول بها الآن, غير متعلقة بمذاكرة المحاضرة التي في يدك. و غالباً ما تكون عن الماضي, لكنها عندما تتعلق بالفكرة التي في يدك الآن فإن هذه الضجة تنقلك إلى المستقبل و تصور لك نتائج سيئة كرسوبك المحتمل في إحدى المواد و هذا ما يسمى قـلـق ! و فكرة الرسوب هذه لم تأتِ من حدث في المستقبل فأنت لا تعلمه بعد و لكنها أيضاً من رواسب الماضي, ماضيك الشخصي أو ماضي الآخرين الذي دخل إلى رأسك عن طريق ما يسمى إشاعات. كإشاعة أن السنة الماضية الدكتور الفلاني أعطى درجات سيئة لـ60% من الدفعة في مادته. تدخل هذه الفكرة و تعيد نفسها مراراً و تكراراً في رأسك و أنت تذاكر المادة بشكل قهري إدماني ! فتضطر إلى رفع صوتك بالمذاكرة أو التكرار كثيراً حتى تحفظ  و يكبلك الصداع باكراً و أنت لم تنجز كثيراً بعد ! هذا أكثر سبب في رأيي  يعاني من نتائجه السيئة طلاب مجتهدون أكثر من غيرهم. كثيراً ما يستوقفني منظر أختي و بعض طالبات الطب التي أجدها تذاكر بقوة و غضب كأنها تحاول إقناع أحدهم بموضوع معين و هو عنيد صلب! و أتذكر أيضاً مفهوم قارورة الماء الذي تحدثت عنه في موضوعي السابق هــنـــا 

كيف نتحرر من تلك الضجة إذن؟

كونك تستطيع الاعتراف بوجود ضجة خلفية في رأسك تمنع عنك التركيز في فكرة واحدة و صفاء الذهن الذي تحتاجه لتبدع يعني أنك على بداية طريق التحرر.

حاول أن تستسلم للفكرة المزعجة التي تدور في رأسك. أنت الآن مدرك لوجودها و مدرك لوجودك أنت الشخص الذي يفكر فيها! يعني أنك و الفكرة شيئين منفصلين. هذا يدحض كلام الشخص الذي يقول “أنا راسب” , يزعم أنه و فكرة الرسوب كيان واحد! و لذلك أنا هنا لا أقصد هذا النوع من الاستسلام للفكرة و لكن استمع لها و حسب. كونك وصلت إلى هذا المستوى من الوعي الجديد بانفصالك عن تيار الأفكار في رأسك يعني أنه و أخيراً فقد سيطرته عليك. ستشعر ببعض الفراغ لوهلة, كالشخص الذي أدمن شيء لفترة طويلة في حياته و توقف, يرى الآن ذلك الفراغ الذي كان يشغله الشيء الذي أدمنه و تركه الآن. 

تكرار طريقة الانفصال عن تيار الأفكار يضعف قوته و النظر إلى ضجة أفكارك كشيء منفصل عنك يزيد من ذلك الفراغ بينكما, و تدريجياً هذا الفراغ سيمتلئ بكثير من السلام الداخلي و السكون. 

قد تكون هذه الطريقة نظرية جداً لدى البعض و لذلك سأقترح هنا طريقة أخرى لصفاء الذهن. عندما تبدأ في المذاكرة مثلاً و شريط أفكارك ضغط على زر بدء التشغيل  , حاول ألا تحاربه! خذ ورقة و قلم و اكتب ” أمور سأفكر فيها لاحقاً”  و قم بكتابتها مرقمة واحد اثنان ثلاثة  بدون الانتباه إلى قواعد اللغة أو الكتابة بالفصحى مثلاً أو بلغة معينة واحدة. اكتب ما يخطر على بالك كما خطر على بالك, لا تحاول تزيينه و لا تشويهه و لا تغييره. ستجد أن تلك الفكرة انتقلت إلى الورقة و نسيت طريق العودة إلى رأسك 

🙂

خذ نفساً عميقاً و عد إلى مذاكرتك. لا تنسَ أن تخبئ تلك الورقة عن ناظريك حتى لا تتسلل عينك إليها و تعرف طريق العودة إلى رأسك لأنه كالمغناطيس بالنسبة لها! 

طريقة أخرى و هي أن تخصص ربع ساعة لتتعامل مع كل ما يشوش رأسك يومياً. اختر المكان و الزمان المناسبين بالنسبة لك. قد يناسبك أن تفكر فيها و أنت تحت الماء تغتسل! و قد يناسب البنات السكون تحت قناع  شرائح الخيار على الوجه مثلاً! أو و أنت تحاول المشي متوازناً على جدار ما, أو مغمور في ماء بارد في بركة أو حمامك الساخن. كن خلاقاً في ابتداع الأفكار التي تريح عقلك. اقتنع بأنك تستحق راحة ذهنية كل يوم و لا تستبدلها بضجة الحياة أبداً.

🙂

6 thoughts on “من أين يأتي صفاء الذهن؟

  1. Pingback: كيف تنظم حياتك كطبيب مقيم؟ | مُـدوَنَــة أَطِـبَّـاءُ الـمَـجْـد

  2. جميلٌ جداً ، أشكرك على كتابة هذا المقال الذي قرأته في أشد الأوقات حاجة اليه 🖤

    Like

  3. موضوع جيد جداً بس ينقصه للتوضيح مثال على محادثة النفس بفصل الفكرة عن الكيان..

    محادثة قصيرة حتى نعرف الآلية.. لأن نفسي تتغلب علي أحيانأ بالإقناع ف احتاج انا اتغلب عليها xD

    Like

  4. Pingback: اسـتـفـسـارات مـادة الـبـاطـنـة- Internal Medicine | ’Medic Of Glory

  5. Pingback: من أين أبدأ المذاكرة؟ | ’Medic Of Glory

اكــتـب تـعـلـيـقـك أو سـؤالـك هـنـا

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.