في سنة الامتياز , تلك السنة التي تتقلب فصولها يومياً داخل المستشفيات.. خريف و ربيع و صيف و شتاء يتكرر مئات المرات .. من تلك السنة خرجت بحكايات لن أنساها قريباً . أبطالها مرضى كُتب لهم أن يعيشوا عمراً في المستشفى و كُتب لي أن أكون جزءاً من أيامهم. أذكر “بعضها” هنا لأنقلها إلى ذاكرتكم فذاكرتي تعج بالكثير الذي لم أعد أحتمله لوحدي.
أعتذر إن سببت لكم بعض الحزن أو أيقظت أوجاعكم مؤقتاً .. فبين سطورها أمل ٌ لا يستهان بقيمته .
حديث العيون
في يوم بدى هادئاً و مملاً, كنت منهمكة في أعمال ما قبل جولة المرضى .. كنت واقفة عند آلة فرم الأوراق. شعرت بيد تشد معطفي بلطف. نظرت حولي فلم أجد أحد بقربي. حسناً ربما خُـيل إلي.. لكن هذه المرة أمسكت بساقي من الخلف. وسط تلك القشعريرة التي دبت في جسدي رأيت أصفى عينين في حياتي . أجمل خدين و أعذب ابتسامة .. طفل صغير جديد في القسم لم أره من قبل , وقف صامتاً و أشار إلى الورقة في يدي يريدُها .. كانت تلك الورقة تنتظر قصاصها في الآلة .أعطيته إياها .. حاول أن يضعها في الآلة لكنها كانت أطول منه. وقفت أراقبه و أشجعه.. يالعذوبته ! .. نظر إلي .. “ساعديني” .. لم يقُلها كان صامتاً طوال الوقت لأن حديث عينيه كان عالياً و يكفي عن ألف كلمة!
حملته و ما إن أمسكَت الآلة بطرف الورقة حتى جذبتها بقوة و أصدرت صوتها المعتاد فغمرته السعادة و أطلق أجمل ضحكة سمعتُها .. خفـتُ على أصابع يديه الصغيرتين ,لكنه أصرَّ يريد إمساك الورقة للنهاية. قلت له انظر هناك ورقة أخرى , أعطيته كل أوراقي التي كانت تنتظر مصيرها.. لكنها انتهت .. و عاد حزنه و اغرورقت عيناه الصافيتان بالدموع. تلفتُ و قلت له انتهت الأوراق , عُـد إلى غرفتك يا صغيري . لكنه وقف مستمراً ينظر إلي و قد تقوست تلك الشفتين الحمراوين يوشك أن يبكي.. أعرف جيداً أن دموعي أيضاً لديها جواز عبور لا يمر بمدخل عقلي ! تداركتُ الموقف و أخذته في جولة نبحث عن أوراق لا يريدها العاملون في القسم. كلما جمعنا ورقة ازدادت سعادته. عدنا إلى تلك الآلة. أطعمناها حتى شبعت و توقفتْ عن العمل الحمد لله ..عاد إلى غرفته يمشي ببطء غريب كأنه يتألم خفية.. عدت إلى عملي و في صباح اليوم الثاني دخلتُ متلهفة إلى غرفته أحمل له مغامرة مختلفة فاليوم دور الطبيب الذي اعتدنا تأخره. لكني وجدت مريضاً آخر. خرجت أسأل عن رقم غرفته الجديدة و إذا بها تلك الغرفة الباردة التي لا تحمل أرقاماً .. صديقي الصغير مات .. كان يعاني من مرض نادر يأكل أحشاءه واحداً تلو الآخر .. توقف قلبه أربع مرات ليلة أمس و استسلم في المرة الرابعة عصفوري الصغير. ألهمني الله أن أدعو لأمه و أن أفرغ ذلك الحزن في رعاية مرضاي الباقين.
ولادة حياة
في ليلة مليئة بالأحداث الدموية, سرقت من وقت المرضى دقائق لأتناول طعامي البارد. و أثناء ذلك سمعت صراخاً عالياً غريباً على أقسام التنويم الهادئة في هذا الوقت. بيجري لم يرن. يا ترى ماذا يحصل؟ تركت طعامي و خرجتُ من غرفة الطبيبات لأجد الشرطة و رجال كثيرون تجمعوا حول غرفةٍ أعرف من بداخلها.. اقتربت أسأل لكن الجميع مشغول بصخب قريب المريض الذي كتفته الشرطة و هو يصرخ ارحموه يا ملائكة الرحمة. اقتربت منه و قدمت نفسي إليه و سألته مباشرة.. خالد بخير؟ تهلل وجهه و حمد الله بصوت عالٍ .. دكتورة أعرفك أنتِ في الفريق المسؤول عن أخي..يقولون أن الدواء المهدئ يحتاج توقيع من الاستشاري المسؤول عنه و هو غير موجود الليلة.. أرجوك ساعديني. استأذنته في ثواني لأفرق ذلك الجمهور أولاً ! دخلتُ فوجدت خالداً يبكي بحرقة ! سألته ما بك يا خالد؟ قال أريد بعضاً من ذلك العقار السحري لأنام ! كان مريضي مصاب بعدوى الباكتيريا آكلة اللحم التي التهمت جزءاً كبيراً من فخذيه. تنظيف جروحه يومياً كان جحيم لا يطاق إلا بجرعة من الديميرول المخدر. لم يتحمل الجراحين صراخه عند تغيير ضماده يومياً .. كانوا يعطونه جرعات متكررة من هذا الدواء الخطير حتى أدمنه. في تلك الليلة تمكن منه الأرق. أعرف جيداً معنى الإدمان النفسي قبل الجسدي. مريضي قرأ عنه و أقنع نفسه أنه سيحتاجه لبقية عمره. كلما حذرته من مضار الجرعات المتكررة في الأشخاص الأصحاء فما بالك بشخص يزن 400 كيلوجرام كان يكمل جملتي بالانجليزية !! مريضي يأس من الحياة. حبيس جسد ضخم و آفة تأكله و هو نائم. كل يوم كنا نمزق من لحمه و نرميه.. ضجر من رؤية وجوهنا تشمئز من رائحة جلده المتعفن.. مريضي طلب مني جرعة مضاعفة يريد أن ينام للأبد, قالها لي بوضوح.. و قبل أن أستسلم لتلك الأسئلة التي تدور في رأسي .. لماذا أنا؟ لماذا الليلة ؟ ماذا أفعل .. ! و حتى أبدد ذلك التنمل الذي دب في ساقَي.. طلبت من الجميع أن يخرج , إلا أخاه _الذي كان على شفا حفرة من السجن المركزي_ طلبتُ منه أن يصمت و ينظر بعيداً ! استأذنت للجلوس في كرسي على يمين سرير المريض.. بدأت أحدثه عن الأمل! و الحياة و كل شيء جميل أعرفه. عن النوم و كيف أنه يشفي الروح و الجسد.. عن الفرص و الخيارات الكثيرة التي ستخلصه من سمنته المفرطة. عن قوة الإرادة في وجه المخدرات و العقاقير التي لا تملك حولاً و لا قوة. استمر بكائه حتى تنهد بعمق و ابتسم .. نـام مريضي في سلام حتى كدت أحسده! ليلته انتهت و بدأت ليلتي .. في اليوم التالي.. و حين جاء وقت تغيير الضمادات, وقت العذاب و هلوسة ذلك المخدر.. رفض مريضي الديميرول.. وسط دهشة الجميع و محاولاتهم في تهويل الألم الذي سيشعر به عند تمزيق لحمه.. رفض رفضاً قاطعاً و طلب أن آتي.. كنت أقف بجوار باب غرفته لا أحتمل تلك الرائحة, سمعته ينادي باسمي دخلت فسألني الاستشاري هل تحملين جرعة الديميرول؟ نظرتُ إلى خالد و قلت له هل تحتاجها؟ ابتسم و قال قفي على يميني فقط , لست ضعيفاً كما يعتقدون. نظر إليهم يحملون سكاكينهم و قال ابدأوا , سأخرج من المستشفى قريباً بإذن الله. جزاها الله خير الدكتورة.
!للقلوب قوالب
في إحدى جولات فريقنا على المرضى , استأذن طبيب ليمر على مريضة في العناية المركزة, شعرت بالفضول لأرى مريضتنا الجديدة..ذهبت معه و في طريقنا إليها حكى لي قصتها. سبعينية مجهولة وجدوها تنزف عند باب المستشفى, ثيابها ممزقة و أحشاؤها تتدلى من جرح عميق في عورتها لا إله إلا الله !! في إغماء عميق لا حول لها و لا قوة. قضى فريق جراحين الليلة الماضية ساعات في غرفة العملية و قد قصوا أمتاراً من أمعائها الميتة. جرح طويل في بطنها عليه أن يضمده يومياً و يكتب ملاحظات تطور حالتها في الملف. ساعدته في تضميد جرحها ثم طلبته أن أستلم الحالة كلياً. لكن هذا الأمر كان من مهام الأطباء المقيمين و لا يسمح لأطباء الامتياز إلا المراقبة في غرف العناية المركزة هناك. لم أكترث لرفضه لكني صمت. في نهاية اليوم اطلعت على ملفها كاملاً, تحدثتُ مع الجراح الرئيسي في عمليتها لأعرف بعض التفاصيل, و الممرضة المسؤولة عن رعايتها و طبيب التخدير و الشرطة و كل من يعرف عنها شيئاً. تلك العجوز المسكينة اغتُصبت بوحشية , جاء جيرانها ببطاقة هويتها لكنهم اختفوا, رفضوا أن يتحدثوا في تفاصيل الحادثة للشرطة. كانت وحيدة قبل و بعد مصيبتها. في ذلك اليوم قرأتُ عن كل ما يمت بصلة لحالتها, حتى أني اشتريت كتاب عن مرضى العناية المركزة بالذات! تعلمت الكثير.. عالم مغيب عنا , ممنوع أن نقترب منه و نحن في سنوات الجامعة, و يسقط من صلاحياتنا في سنة الامتياز. في صباح اليوم التالي, توجهت مباشرة إليها بعد الاجتماع, كتبت كل ملاحظاتي عن حالتها , ضغط دمها و جرعة المنوم و نتائج فحصي لها و كل ما يجب أن يسجل عن مريض العناية المركزة. وصل الجراح الاستشاري المسؤول عن حالتها برفقة الطبيب الذي أخبرني بقصتها. سردت عليهم ملاحظاتي و ألحقتها باقتراحاتي بثقة يسوقها الألم ! نظرا إلى بعضهما ثم قال لي الاستشاري سلمي كل مرضاك لزملائك و استلمي هذه الحالة. أما أنت يا دكتور فلان فتعال معي 
استمريت اعتني بها عشرة أيام, كنت أتحدث معها أسلم عليها و أطمئنها و هي في غيبوبة عميقة.. كانت تقول لي الممرضة .. دكتورة هي لا تسمعك.. قاطعتُها بل تسمعنـي .. دمعت عينها المغمضة و فرحتُ بها رغم المعاناة. كانت حالتها تسوء و تتحسن بالتعاقب كحال الكثيرين من مرضى العناية المركزة. بدأ الأطباء يخففون من جرعة المنوم علها تفيق من غيبوبتها لكنها لم تفعل. لاحظت تقطيب وجهها بين الحين و الآخر كأنها تتألم بشدة, فقد أوقفوا عنها كل المهدئات حتى يساعدوها على الاستيقاظ . حاولت كثيراً أن أقنع طبيب التخدير أن يغير الخطة العلاجية و يخفف ألمها بأي شيء و نجحْت الحمد لله. كنت كل يوم أضمد جرح عمليتها الذي لاحظت أنه لم يلتئم! انتفاخ بطنها تغير , لا يمكن الحكم بدقه على زيادته من جلدها المجعد الأسمر! حاولت إقناع فريقي أن ببطنها قنبلة موقوتة لكنهم واجهوني بدلالات الفحص التي لم تتغير من وجهة نظرهم.. ذهبت شكوكي إلى ما نسميه ..
Bowel Ischemia
و أخيراً وجدت الاستشاري المسؤول عنها. الذي فتح بطنها سابقاً . تأكدت من ألا ينصرف حتى أزرع ذلك التشخيص في رأسه! و ذهبت… في فجر اليوم التالي ساءت علاماتها الحيوية كثيراً. و يبدو أنه تذكر إصراري و جنوني! فتح بطنها و ياللهول .. الأمتار المتبقية من أمعائها مظلمة! كانت ستموت من تخمج دمها إذا لم يقصها. الحمد لله نجحت العملية لكن عادت المريضة إلى سريرها في العناية المركزة.
كنت أدعو لها كثيراً . أريدها أن تفيق و تستعيد صحتها و تزج بذلك المجرم في سجن يُهان فيه. آمنتُ بأنها مناضلة , و لن تخرج من المستشفى محملة على الأكتاف ! سأتعرف عليها و ستراني للمرة الأولى.
في اليوم الثالث عشر كعادتي ليس عندي مرضى غيرها. ذهبت و لم أجدها على سريرها! خرجت بسرعة أسأل الجميع أين فاطمة أين مريضتي ؟ ماتت ؟؟ لا أرجوكم !!
هدأتني ممرضة و قالت لي نقلناها إلى الغرفة المجاورة و هي بخير تحمل لك مفاجأة. ذهبت فوجدتها تنظر إلى السقف .. تهللتُ فرحاً .. فاطمة فاطمة كيف حالك ؟ أنا دكتورة فلانة .. امسكي يدي . . تسمعينني؟ انظري هناك ..فاطمة ..
كانت في مرحلة من مراحل الوعي أفضل من الغيبوبة .. تحسنت .. لكن تفاعلها مع المحيط الخارجي لم يبدأ بعد . عرفتُ أن وعيها سيتحسن تدريجياً و ستشفى. كنت سعيدة في ذلك اليوم. أخبرت الاستشاري لكنه ابتسم بلامبالاة !
في اليوم الرابع عشر.. ذهبت إليها و لم أجدها في سريرها الجديد. طمأنت نفسي و سألت الممرضات . أين وضعتم مريضتي هذه المرة! هل تنقلون المرضى دائماً هكذا ؟
قالت لي ممرضة و هي تمشي على عجل
She expired last night.. thanks God !
ماتت فاطمة ! إنا لله و إنا إليه راجعون . سألتهم ما سبب الوفاة؟ قالوا لا نعلم طاقم الممرضات الليلي انتهى دوامه قبل ساعات. سألت فريقي و لا أحد يعلم . و بعضهم هنأني أني تخلصت منها. الاستشاري لا يعلم و لكنه مبتسم يقول لزميله مازحاً “عقبال عندك” الله ياخذ اللي عندك. سألتُ نفسي هل سيتحجر قلبي يوماً ما ..؟ هل سأشبههم بعد سنوات ؟
دموعي لم تختبئ .. لم تسقط حتى ! وقفتْ حائرة مذهولة .. أيقظني من دهشتي زميلي .. دكتورة انتِ
Dermatology
هاهاهاها .. يحاول التخفيف عني .. أو هكذا كنت أظن و سأظن ! و يؤكد آخر .. الجراحة في عقلها و كفَّيها ما شاء الله .. لكن ليست في قلبها الرقيق !
أريد نهاية لهذه القصة. خاتمة أغلق بها أبواب الأسئلة .. لن أهدأ حتى أقرأ تقرير الوفاة بنفسي. و بعد جهد كبير . عرفت مكان ملفات المرضى المتوفين قبل أن تصادر إلى مكان بعيد. تشجعت و سألت الله العون. وجدت تقرير الوفاة .. توفت مما كنت أخشاه ..
Septic shock
توقف قلبها مرات عديدة , لم تستسلم فاطمة من أول مرة .. فصول محاولة انعاشها لم تكن قصيرة ..حتى حان أمر الله . .رحم الله فاطمة و أسكنها فسيح جناته.
للرحمة وجـوه
بعد شهر مليئ بالمآسي و القسوة ! اخترت قسماً هادئاً مع فنانين يهندسون القلب و ما جاوره بكل حرفية و لطف.. المرضى أقل ألماً و عدداً .. لكن ذلك السلام لم يستمر طويلاً .. عندما أمسكت بتلابيبي فتاة ضجت بالصراخ و العويل , ملأت القسم حزناً .. كانت تركض و تلطم وجهها .. أمسكت بيدي تجرني معها لأنقذ جدتها من الموت .. قلت لها أين جدتك قالت في الدور الخامس تعالي معي.. أنا لا أعرفها و لا أعرف جدتها و لا أعمل في الدور الخامس أساساً ..!! إذا كانت جدتها ستموت حقاً فإن في الدور الخامس من علم بالأمر و بدأ الإنعاش.. غريب ! لم أسمع صوت إنذار الكود بلو قبل قليل .. كنت أسأل نفسي و أجيب أيضاً في طريقي معها إلى الدور الخامس.. وصلتُ فوجدت أقرباء المريضة يقفون حولها يدعون لها و يرتلون بعض الآيات بكل هدوء و سكينة.. و هي استمرت في الصراخ بنت في عمري تقريباً .. صرخت في أذني لا تقفي هنا أنقذيها هيا.. أشار لي رجل من أقربائها بيده لأتوقف.. أنا لم أقترب من المريضة رغم محاولات دفعها لي إلى سرير جدتها التي تنام في غيبوبة. ميزت المنظر من أول ثانية.. حفيدتها لم تتقبل فقدانها بسهولة .. حبيبة جدتها لا تقوى على الفراق.. إنه منظر المريض الذي وقَّـع بعض أهله ورقة
DNR
يعني عدم الإنعاش .. ! يعني عدم الاستمرار في التعذيب.. يعني الرحمة لمن انتهت حياته قبل أن يموت..
سألتُ ولدها الكبير الذي أشار إلي أن أتوقف سابقاً . سألته ما قصتها؟ قال لي أنهم وقعوا ورقة عدم الانعاش و لم يخبروا حفيدتها الصغرى ! هي لا تعلم بقرارهم هذا.. جدتها تعذبت كثيراً و هي على هذه الحال منذ سنتين .. لم تفق و قد يأسوا طبياً منها.
أشرت عليه بأن يخبروا حفيدتها بتلك الورقة حتى تتقبل نهاية ذلك الفصل من حياتها و لا تتعذب طويلاً. لكنه فضل أن تلتصق تهمة القتل بالمستشفى بدلاً عنهم. تهمة القتل التي لم تنفك حفيدتها تتهم بها كل طبيب و طبيبة يمر من غرفة جدتها الحبيبة. اللهم ارحم أموات المسلمين جميعاً.
جروح القلب
في صباح يوم جمعة , المدينة نائمة , الشوارع خالية , حتى الرياح ساكنة و البحر كقطعة مرآة لا تعكس إلا ضوء الشمس. كنت في طريقي إلى المستشفى لأبدأ مناوبتي .. دخلت من باب مختلف هذه المرة, فالباب الرئيسي موصد و العصافير تلعب عند عتبته .. كنت متفائلة أتمنى قطعة شيكولاته داكنة أغرق فيها قبل أن أستلم البيجر .. كأن هذه الأمنية مرت على صديقتي أيضاً .. كانت تنتظرني عند الباب بقطعة شيكولاته كبيرة و كوب قهوة فرنسية.. تفرقنا بعد جلسة قصيرة لنلبي نداءات البيجر المتلهف.. و في الظهيرة مررت بممرضات منزعجات يخرجن من غرفة مريض طردهن بعنف … هائجٌ لا يريد لأحد أن يلمس جرحه اليوم. ضاق صبره .. يريد إجازة من ذلك العذاب! صرخَت في وجهه ممرضة : إذا لم تغير الدكتورة لك الضماد سيتعفن جرحك و لن تخرج من المستشفى سريعاً .. لحظة .. من ؟ أنـا ؟ سأغير ضماده؟ من قـال هذا !! رن بيجري.. تحويلة نفس القسم الذي كنت فيه .. جاءت ممرضة لم تحضر ذلك الموقف .. دكتورة هناك مريض حان موعد تنظيف جرحه لكنه عنيد الله يعينك.. أين هو؟ في هذه الغرفة .. و عدت إلى المريض الهائج.
كان شاباً في بداية الثلاثينات يجلس بائساً حزيناً , يرتعد خوفاً كلما اقتربت من سريره .. يختبئ تحت بطانيته كطفل جبان . عرفته عن نفسي و سألته أين جرحك؟ فقال في بطني و لن تلمسيه أبداً. و ما سبب رفضك لتغيير الضماد؟ قال أتألم.. و لا أريد أدوية و بالله عليك اتركيه اليوم أريد أن أرتاح. طمأنته أني لن أكون سبب في ألمه, و سأحاول قدر الإمكان أن أريحه. استئذنته لدقائق حتى يرتاح و يهدأ و أقرأ ملفه قبل أن أبدأ تغيير ضماده.
جروح عملية تغيير مسار معدة بالمناظير, ثقوب صغيرة التهبت و تعفنت بسبب رفضه المستمر لتغيير ضماده و استسلام بعض الأطباء أحياناً. أنابيب تصريف الجرح قذرة , مصدر مستمر لاتهاب جرحه.. قررت أن أعيد الساعة إلى الوراء و أعتني بجروحه بكل دقة ممكنة. طلبت ممرضته و أدوات جراحية بجانب أدوات الضماد العادية.. و بدأ الفيلم ! تبخر ذلك الهدوء _الذي تقبله أخيراً _عندما رأى عربة الأدوات.. لا يا دكتورة أرجوك , و كان يدفع يدي بخوف شديد و يحاول دفع العربة و الممرضة ثائرة تؤنبه و تزيد من ألمه .. المريض فقد ثقته بالجراحين, كلهم قالوا له نفس كلامي .. كلهم وعدوه أن ينظفوا جرحه بلطف.. لكنهم خذلوه مراراً .. كنت صامتة معظم الوقت كما أنا دائماً .. لم أرد عليه و لم أساعد الممرضة في شريط التهزيء !!
عرفت أنني يجب أن أحل مشكلة الثقة المكسورة قبل أي محاولة لتنظيف جروحه.. سأحتاج إلى مجال معقم و تعاون من الممرضة و المريض و إلا فسنعود إلى نقطة الصفر حيث بدأنا.. بيجري لم يتوقف عن الرنين فاستغليت الفرصة .. ناديته يا فلان هل تسمع بيجري ؟ المرضى كثيرون كنت قبل قليل عند مريض كبير في السن بترنا قدمه قبل أسبوع .. و رحت أسرد عليه قصص المرضى بشيء من الدراما , الفكاهة و التشويق و خلال ذلك كنت أرتب الأدوات و أتفق مع الممرضة على خطة تهدأة.. سمح لي أن أنظر إلى جرحه.. فسألته عن قصته لأن لهجته كانت تختلف عن لهجة تلك المنطقة .. كنوع من التشتيت و حتى أحتفظ بتسلسل الحوار الذي بدى فيه مستمتعاً .. استوقفته و قلت له .. أرى أن لديك حساسية من القطعة البلاستيكية اللاصقة فسببت لك بعض التقرحات حول الجروح الأساسية, و كلما رفعها أحدهم سببت تقرحات أكثر ..سأحتاج إلى بعض السائل الملحي كي أفصلها عن جلدك بهدوء.. و اتفقنا على ذلك.. انفصلت القطعة البلاستيكية بسهولة و المريض يرتجف من الخوف.. و بدأت مراحل التعقيم المريض متعاون و مرتاح, الممرضة مستغربة , و أنا أشعر بالحزن على قطعة الشيكولاته التي لن أعود إليها بعد هذا المنظر.. رحماك يالله .
قبل أن أضع آخر طبقة من الضماد , بكى المريض بكاء الأطفال .. رج أركان الغرفة .. سألته آلمتك؟ أنا أعتذر .. قال لا و الله .. لا و الله .. لكن لم يعاملني أحد بهذه الطريقة من قبل .. أنتِ و يديك سبحان الله .. قبضت يدي وراء ظهري خجلاً .. فارتفع صوته بالبكاء مجدداً ..ثم قال .. أهلي .. أنا وحيد في هذه المنطقة . . جئت من الرياض لثلاثة أيام مدة العملية و سأعود إليها لكن لا أدري كيف أصبحت ثلاثة أشهر,, قال و هو يمسح دموعه الغزيرة .. حتى هم تركوني ملوا من وضعي ! دعا لي كثيراً و طلب مني أن أغير ضماداته يومياً بدل الطبيب المسؤول عنه.. طلبت اسمه و قلت له لا تخف سأهتم بأمره. سأشرح له الطريقة الأسهل لتغيير جرحك و سأكتب وصف لجروحك في الملف مع الإجراء الجديد الذي أدخلته على طريقة تغيير ضمادك .. و عندما بدأت أسئلته الشخصية الخاصة ,اعتذرت منه و دعوت له بالشفاء العاجل و استأذنت .. ذهبت و لم أعـد ! خلال أسبوع التئمت جراحه و سافر إلى أهله.
زفَّـة اليأس
في العيادات الخارجية, دخلت أم للمرة الثانية منذ مجيئي إلى ذلك القسم, تقود ولدها الكبير معاق على كرسي متحرك بيد و تحمل رضيعاً بيدها الثانية , أما طفلها الثالث فلحقها يمشي بصعوبة و بطريقة تلفت الأنظار. سألت عن الطبيب المعالج تريده بسرعة و لدقيقة واحدة لكن دورها لم يحن بعد.. شعرتُ بحاجتها الشديدة للتحدث معه فحاولت تهدأة الممرضة التي طردتها من المكان إلى كراسي الانتظار .. خرج مريض من عيادة الطبيب فقدتها إليه فوراً .. دكتور , هذه أم فلان تريد التحدث معك دقيقة.. دخلت بسرعة و ألقت برضيعها بين ذراعي الطبيب و هي تكفكف دموعها .. دكتور هذا ولدي الجديد , عمره أقل من شهر , لا تفحص أولادي ككل مرة .. لكن أرجوك افحص طفلي الصغير و اطلب له كل التحاليل التي تعرفها .. أريد أن أعرف هل هو مصاب بمرضهم؟ أرجوك قول لي .. قبل أن يكبر و تكبر آمالي معه و خيبتي عندما يصبح في عمر أخيه الكبير ..
كانوا مصابين بمرض يشل حركتهم تدريجياً , لا يظهر إلا عند عمر خمس سنوات فأكثر .. اسمه
Duchenne muscular dystrophy
مرض ككل الأمراض من نوعه لم يكتشف له علاج بعد . . وقف الطبيب حاملاً رضيعها يحاول تهدأتها و هي مصرة أن يفحصه حالاً .. مثَّـل أمامها أنه يمكن معرفة مستقبله من الفحص السريري العادي. أعاد لها طفلها و قال لها إن شاء الله سيكبر و سيعينك على أخوته.. سألَته بالله أن يقول الصدق .. استسلم أخيراً و قال لها لا أعلم. سألَته عن أي مكان في العالم قد يكون الأطباء فيه اكتشفوا علاجاً لهذا المرض أو أي دواء يخفف سرعة إعاقتهم.. و كانت إجابته لا أعلم لا تحاولي هذا المرض معروف أن ليس له علاج و أنت تعلمين بذلك. اخرجي الآن لدي مرضى غيرك!
نظرت إلي تستنجد بي مقهورة.. و لم تقل شيئاً . .. زدتها خذلاناً على خذلانها الأول و رحلتْ.. سألتُ الطبيب ما آخر ما توصل إليه العلم الحديث لهذا النوع من الأمراض؟ هل هناك بصيص أمل على الأقل أو بادرة خير؟ هل لديك أبحاث في هذا الجانب؟ و الإجابة لا أعلم .. لدي بحث أقوم به حالياً عن كذا و كذا .. و راح يشرح فيه بكل بهجة و اهتمام .. و قال في نهاية حديثه و هو يضحك , سأثبت للدكتور فلان أن طريقته خاطئة في علاج المرضى. كان موضوع بحثه من الجوانب التي تعددت فيها الأبحاث بلا فائدة كبيرة.. كان يريد فقط أن يثبت صحة طريقته بالعلاج الدوائي لمرضى يأتون إليه و إلى نده جراح الأعصاب ..على مستوى القسم فقط. و على مستوى ذلك السبب التافه و على مستوى نبله الفقير! سألته و هل لديك أبحاث أخرى فقال نعم بكل سعادة و كأنه ينتظر سؤالي .. اكتشفت أنه استغل موارد البحث و تسهيلات مركز الأبحاث ليلمع صورته فقط و ينتصر على رئيس القسم الذي يقلل من احترامه يومياً في الاجتماع الصباحي أمام الجميع! هذا الطبيب أكثر انشغالاً بنفسه عن أي مريض يعرفه. سألته و لماذا لا تبحث في مرض أولاد تلك المرأة؟ سيكون من الرائع لو تكتشف شيئاً جديداً قد يغير حياة الآلاف .. ما رأيك ؟ .. لم يكترث و قال معروف أن هذه الأمراض ليس لها علاج و السلام عليكم.
هذه القصة أيقظت ناراً كنت أحسبها خبَت منذ زمن طويل.. غيرت مجرى حياتي و إلى الأبد !
😦
Pingback: ٢٥ من أسرار المقابلة الشخصية | مُـدوَنَــة أَطِـبَّـاءُ الـمَـجْـد
برافو عليكي حقيقي
LikeLike
شكراً ☺️
LikeLike
هذا هو الأسبوع الأول لي في سنة الامتياز ، وفي هذا الأسبوع قابلت من المواقف الكثير أكثرها التصاقا بذاكرتي موقف بالأمس وقفت حائرة أمامه ليس بيدي شيء أفعله ،،
ولكني الآن وبعد أن قرأت هذه الأسطر بكل عمق يسكنني عرفت كيف سأقف في المرة المقبلة بطريقة قلبي لا قلوبهم ..
شكرا لكلماتك التي ألهمتني .
LikeLike
أنا طالبة طب و أراك في آخر الطريق كقدوة و كمستقبل أرجوأن أصل إليه … الطبيبة المسلمة و الإنسانة
فخورة بك جدًا فلا معنىً لإن تكون طبيبًا إن لم تكن مداويًا للأرواح قبل الأبدان … أتمنى أن ترشديني لبعض الخطوات التي صنعت ما أنتِ عليه اليوم لأحذو حذوك ..
LikeLike
زادني تعليقك بهجة بعد حضورك ..
أشكر متابعتك و حسن ظنك .. أتمنى أن تصبحي أفضل مني و تزيدي الدنيا فخراً بجمال روحك ..☺️
قد لا أملك أن أكتب لك تجاربي الحياتية في خطوات و لكني بين الحين و الآخر أطرح هنا أكثرالتجارب التي غيرتني .. و الكتب أيضاً..أكثر ما غيرني هو قراءة الكتب عن التنمية الشخصية ..
تصفحي المواضيع التالية فقد سكبت فيها من قلبي الكثير !
My bookshelf of Personal development
Bookshelf of the Evolving Physician
عبثـاً تُحاولُ لا فـناءَ لـثـائر
لكن لستُ أهوَاهُ
لَـم يَحـدُث أبـداً
Dr. Neophyte Style.
أَحِـبـِيـنِي بـِلا عُـقَـد +18 !
رسائل إلى سايلنت
في الركن البعيد الهادي
لمزيد من القصص و النصائح الحصرية. قناتي هنا
LikeLiked by 1 person
دكتورة سايلنت لي أكثر من 3 ساعات أقرأ في مدونتك أعجبت بك كثيرا انت انسانة رائعة تعجز الكلمات عن وصفك ماشاءالله تبارك الله عليكِ علم وأخلاق وحكمة وموهبة في الكتابة
قصص الفصول الاربعة لمست قلبي ولم اتمالك دموعي
لا أعرف كيف أشكرك على المواضيع و النصائح الذهبية لأخواتك الطبيبات خاصة و مدونتك كلها عامة
كتب الله لكِ أجر كل حرف كتبيه و كل لحظة قضيتيها في نشرهذا الخير
انت قدوةعظيمة
الله يكثر من أمثالك و يسعدك و يوفقك دنيا وآخرة
LikeLike
شكراً جزيلاً , تعليقك أنار قلبي.
LikeLike
تعليق وصلني من إحدى المتابعات على
http://ask.fm/asksilent
>
دكتورة قريت في مدونتك الاخيرة عن بعض القصص وفخورة جدددا لأمثالك الي تعطي امل بالحياة وان لسى فيه ناس بخير وف نفس الوقت جاني اكتئااااااب من موقف الدكاترة الي يلجأ لهم مريض وهم باضعف حالاته وممكن تقسى قلوبهم كذا فكرت لو باواجه قصص مثل كذا بعد التخرج ممكن أصيب باكتئاب والاحظ العاطفة تغلب علي
LikeLike
آهلاً و سهلاً بك عزيزتي ..
أشكر كلامك الجميل ، مهنتنا إنسانية و الأمل جزء كبير منها ..
لكن ليس الجميع متشابهين و لله حكمة في هذا. قساة القلوب موجودون في كل مهنة و في كل مجال ، و القسوة تؤلم مهما كان منبعها.
المهم أن نضع أنفسنا مكان الآخرين و نرى الدنيا بمنظورهم للحظات حتى نستطيع مساعدتهم مهما وسوست إلينا أنفسنا بغير ذلك.
أتمنى لك التوفيق . في بيئة العمل ، توقعي أي شيء من أي أحد و لن تغلب عليك العاطفة و لا الاكتئاب..
LikeLike
تعليق ,وصلني من أحد المتابعين في
http://ask.fm/asksilent
>
اعتذر حاولت اعلق في مدونتك ومانزل التعليق فرديت عليك هنا : قد لاتعلمين من انا ولكن انا اعلم ان خلف تلك الانسانه الصامته وطنًا من الانسانيه قرأت حكاياتك المسروده بطريقه متقنه لتنتقل مشاعري مابين كدر وفرح كما انتقل من سطرٍ لسطر بطلة تلك الاحداث الطبيبةٌ الإنسانه
سبحان من وهبك قبولاً في قلوب الجميع تعيشين ايامك مابين عطاء وبناء لحلمٍ اندثر تعيدين الأمل لقلوبنا بعد فقده بأحرفٍ من سعاده جميله هي يوميات الأطباء فبعد اعوامٍ قليله سأتقلب بين تلك الفصول الأربعه كما فعلتي لأمر على احداث كنتي أنتي ملهمتنا وقنديل مساءنا في تلك الظروف دمتي بسعاده لاتنتهي
LikeLike
شكراً على تعليقك الجميل ..
القصص مؤثرة فعلاً ، فكيف بمن شهدها و عاش أحداثها..
أتمنى من الله أن يجعلنا و إياكم بلسماً لجروح الآخرين و أن ينفعنا و ينفع بنا و يكتبنا مع المحسنين.
كن بخير
LikeLike